تفسير الآيات 6-19 من سورة العلق:
{كلا! إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى. إن إلى ربك الرجعى}..
إن الذي أعطاه فأغناه هو الله. كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه. ولكن الإنسان في عمومه لا يستثنى إلا من يعصمه إيمانه لا يشكر حين يُعطى فيستغني؛ ولا يعرف مصدر النعمة التي أغنته، وهو المصدر الذي أعطاه خلقه وأعطاه علمه.. ثم أعطاه رزقه.. ثم هو يطغى ويفجر، ويبغي ويتكبر، من حيث كان ينبغي أن يعرف ثم يشكر.
وحين تبرز صورة الإنسان الطاغي الذي نسي نشأته وأبطره الغنى، يجيء التعقيب بالتهديد الملفوف: {إن إلى ربك الرجعى} فأين يذهب هذا الذي طغى واستغنى؟
وفي الوقت ذاته تبرز قاعدة أخرى من قواعد التصور الإيماني. قاعدة الرجعة إلى الله. الرجعة إليه في كل شيء وفي كل أمر، وفي كل نية، وفي كل حركة. فليس هناك مرجع سواه. إليه يرجع الصالح والطالح. والطائع والعاصي. والمحق والمبطل. والخير والشّرير. والغني والفقير.. وإليه يرجع هذا الذي يطغى أن رآه استغنى. ألا إلى الله تصير الأمور.. ومنه النشأة وإليه المصير..
وهكذا تجتمع في المقطعين أطراف التصور الإيماني.. الخلق والنشأة. والتكريم والتعليم.. ثم.. الرجعة والمآب لله وحده بلا شريك: {إن إلى ربك الرجعى}..
ثم يمضي المقطع الثالث في السورة القصيرة يعرض صورة من صور الطغيان: صورة مستنكرة يعجب منها، ويفظع وقوعها في أسلوب قرآني فريد.
{أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ أرأيت إن كذب وتولى؟ ألم يعلم بأن الله يرى؟}.
والتشنيع والتعجيب واضح في طريقة التعبير، التي تتعذر مجاراتها في لغة الكتابة. ولا تؤدّى إلا في أسلوب الخطاب الحي. الذي يعبر باللمسات المتقطعة في خفة وسرعة!
{أرأيت}؟ أرأيت هذا الأمر المستنكر؟ أرأيته يقع؟ {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟}.
أرأيت حين تضم شناعة إلى شناعة؟ وتضاف بشاعة إلى بشاعة؟ أرأيت إن كان هذا الذي يصلي ويتعرض له من ينهاه عن صلاته.. إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ ثم ينهاه من ينهاه. مع أنه على الهدى، آمر بالتقوى؟.
أرأيت إن أضاف إلى الفعلة المستنكرة فعلة أخرى أشد نكراً؟ {أرأيت إن كذب وتولى؟}.
هنا يجيء التهديد الملفوف كما جاء في نهاية المقطع الماضي: {ألم يعلم بأن الله يرى؟} يرى تكذيبه وتوليه. ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى، وهو على الهدى، آمر بالتقوى.
يرى. وللرؤية ما بعدها! {ألم يعلم بأن الله يرى!}.
وأمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة وفي وجه الإيمان، وفي وجه الطاعة، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير، مكشوفاً في هذه المرة لا ملفوفاً: {كلا. لئن لم ينته لنسفعن بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليدع ناديه. سندع الزبانية}.
إنه تهديد في إبانه. في اللفظ الشديد العنيف: {كلا. لئن لم ينته لنسفعن بالناصية}.
هكذا {لنسفعن} بهذا اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه. والسفع: الأخذ بعنف. والناصية: الجبهة. أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر. مقدم الرأس المتشامخ: إنها ناصية تستحق السفع والصرع: {ناصية كاذبة خاطئة} ! وإنها للحظة سفع وصرع. فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه: {فليدع ناديه} أما نحن فإننا {سندع الزبانية} الشداد الغلاظ.. والمعركة إذن معروفة المصير!
وفي ضوء هذا المصير المتخيل الرعيب.. تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته..
{كلا. لا تطعه، واسجد، واقترب.}
كلا! لا تطع هذا الطاغي الذي ينهى عن الصلاة والدعوة. واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة. ودع هذا الطاغي. الناهي. دعه للزبانية!
ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأن السورة عدا المقطع الأول منها قد نزلت في أبي جهل إذ مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام. فقال (يا محمد. ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده. فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره..) ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخناقه وقال به: {أولى لك ثم أولى} فقال: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً، فأنزل الله: {فليدع نادية...} وقال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. ولكن دلالة السورة عامة في كل مؤمن طائع عابد داع إلى الله. وكل طاغ باغ ينهى عن الصلاة، ويتوعد على الطاعة، ويختال بالقوة.. والتوجيه الرباني الأخير {كلا! لا تطعه واسجد واقترب}..
وهكذا تتناسق مقاطع السورة كلها وتتكامل إيقاعاتها..